كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن بطال، وصاحب المطالع، وآخرون: هو جمع جدب، على غير قياس، كما قالوا في حسن:
جمعه محاسن، والقياس: أن محاسن جمع محسن، وكذا قالوا: مشابه جمع شبه، وقياسه: أن يكون جمع مشبه، قال الخطابي: وقال بعضهم: أحادب- بالحاء المهملة والدال- قال: وليس بشيء. قال:
وقال بعضهم: أجارد- بالجيم والراء والدال-. قال: وهو صحيح المعنى.
قال الأصمعي: الأجارد من الأرض ما لا ينبت الكلأ، معناه: أنها جرداء هزرة، لا يسترها النبات، قال: وقال بعضهم: إنما هي أخاذات- بالخاء والذال المعجمتين وبالألف- وهو جمع أخاذة، وهي الغدير الّذي يمسك الماء، وذكر صاحب المطالع هذه الأوجه التي ذكرها الخطابي، فجعلها روايات منقولة.
وقال القاضي في الشرح: لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره، إلا بالدال المهملة من الجدب، الّذي هو ضد الخصب. قال: وعليه شرح الشارحون، وأما القيعان فبكسر القاف- جمع القاع، وهو الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث، كما شرح به صلى الله عليه وسلّم، ويجمع أيضا على أقوع، وأقواع، والقيعة- بكسر القاف- بمعنى القاع. قال الأصمعي: قاعة الدار: ساحتها.
وأما الفقه في اللغة فهو الفهم. يقال منه: فقه- بكسر القاف- يفقه فقها، بفتحها كفرح يفرح فرحا، وقيل: المصدر فقها- بإسكان القاف- وأما الفقه الشرعي، فقال صاحب العين، والهروي، وغيرهما: يقال منه فقه- بضم القاف- وقال ابن دريد: بكسرها كالأول.
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلّم: «فقه في دين الله»، هذا الثاني، فيكون مضموم القاف على المشهور، وعلى قول ابن دريد بكسرها، وقد روى بالوجهين، والمشهور الضم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلّم: «فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء»، فهكذا هو في جميع نسخ مسلم «طائفة طيبة»، ووقع في البخاري: «فكانت منه نقية قبلت الماء»- بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مشددة- وهو بمعنى طيبة، هذا هو المشهور في روايات البخاري، ورواه الخطابي وغيره: «ثغبة»- بالثاء المثلثة والغين المعجمة والباء الموحدة- قال الخطابي: وهو مستنقع الماء في الجبال والصخور، وهو الثغب أيضا، وجمعه ثغبان. قال القاضي وصاحب المطالع: هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف، وإحالة للمعنى، لأنه إنما جعلت هذه الطائفة الأولى مثلا لما ينبت، والثغبة لا تنبت.
وأما قوله صلى الله عليه وسلّم: «وسقوا» فقال أهل اللغة: سقى وأسقى: بمعنى لغتان، وقيل: سقاه: ناوله ليشرب، وأسقاه: جعل له سقيا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلّم: «ورعوا» فهو بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري «وزرعوا»، وكلاهما صحيح، والله تعالى أعلم.
أما معاني الحديث ومقصوده: فهو تمثيل الهدى الّذي جاء به صلى الله عليه وسلّم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:
فالنوع الأول، من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيي بعد أن كان ميتا وينبت الكلأ، فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم، فيحفظه، فيحيا قلبه، ويعمل به، ويعلمه غيره، فينفع وينفع.
والنوع الثاني، من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل، يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج، متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث، من الأرض السباخ، التي لا تنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم، والله تعالى أعلم، وفي هذا الحديث أنواع من العلم، منها:
[1]. ضرب الأمثال.
[2]. فضل العلم والتعليم.
[3]. شدة الحث عليهما.
[4]. ذم الإعراض من العلم.
والله تعالى أعلم.
والنّسائي من حديث سويد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب فمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلا، فذلك مثل من فقه معاني دين الله ونفعه بما بعثني به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الّذي أرسلت به.
اللفظ لمسلم، ذكره في كتاب المناقب، وذكره البخاري في كتاب العلم وقال فيه: كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء، وقال فيه: فشربوا وسقوا وزرعوا، وقال فيه: ونفعه بما بعثني الله، وقال بعده: قال إسحاق: وكان منها طائفة قبلت الماء قاع يعلوه الماء.
ومنهم الجامع للعلم، المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم يتفقه فيما جمع، لكنه أدّاه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع به الناس.
ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المجودتين، لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفراد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. الأمثال في الحديث النبوي: [378- 379]، حديث رقم [326] والتعليق عليه.
فانظر ما أبلغ هذا المثال النبوي وأبينه لما نحن بصدده، فهذه عين الماء الّذي نزل من السماء واحدة، وأثره في الأرض مختلف على قدر ما أعطاها الحكيم الخبير سبحانه من الاستعداد، وهيأ فيها من القبول حتى قبلت كل. قطعة منها الماء بحسب استعدادها، فأنبتت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات التي يفضل بعضها على بعض في الأكل، وقبلت قطعة أخرى من الأرض ذلك الماء بعينه، فأنبتت بحسب استعدادها كلأ وعشبا ترعاه الأنعام، وفقدت قطعة أخرى هذا الاستعداد المهيئ لقبول الإنبات، فأمسكت الماء ولم تغيره عن أصله لطيبها حتى استقى منه الناس فشربوا وحملوا وسقوا أنعامهم، وكانت قطعة أخرى من الأرض لم يجعل الله تعالى فيها من الاستعداد لقبول الإنبات شيئا، وسلبها مع ذلك الطيب والاعتدال، حتى انحرفت عنه فلم تخرج نبتا ولا أمسكت ماء، بل أحالته لخبثها أجاجا وملحا لا ينتفع به، فكما اختلفت الأرض في الاستعداد واختلفت في القبول، وهكذا نفوس الناس لما اختلفت في الاستعداد لقبول الخير والهدى، اختلفت في قبوله، وعين الهدى واحدة، ولكن أثره في نفوس الناس مختلف، فواحد قبل هدى الله الّذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم حال ما جاء به من غير أن يدعى إليه ولا طلب منه دليلا عليه كخديجة بنت خويلد، وأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وزيد الحبّ، رضي الله عنهم، وذلك بحسب قوة استعدادهم لقبول الهدى، وقد عبّر عن هذا الاستعداد في اصطلاح القرآن بالهداية، ويقال له التوفيق أيضا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ} 49: 7، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} 47: 17، أي والذين اهتدوا يعني قبلوا الهداية العامة الإيمانية بقابليتهم الأصلية، وأقبلوا بكلية مواطنهم إليها، زادهم الله هدى بما أدركهم من عناية مدد الحضرة الرحمانية بالهداية الخاصة من مقام الإحسان، {وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} 47: 17 يعني أعطاهم تقوى نفوسهم بأن جعلوا حكم توحيدهم الباطن في قلوبهم وقاية تصون أنفسهم عن التلبس من أحشاء الانحرافات المبعدة لهم عن جناب موجدهم تقدّس وتعالى.
وآخرون آتاهم الله تعالى من هذا الاستعداد دون ما أتى من ذكرنا، فاحتاجوا إلى أن يدعوا إلى الله ويدلّوا على الطريق إليه، وهم الذين دخلوا في دين الإسلام من المهاجرين والأنصار، وقصر هذا الاستعداد في قلوب آخرين حتى احتاجوا في دخولهم في الإيمان إلى أن أظهر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من آياته ومعجزاته ما قادهم إلى الإيمان به طوعا، وانحط فريق عن هذه الرتب لضعف الاستعداد عندهم لقبول الهدى، فلم يدخلوا فيه إلا كرها من تحت السيف، كمسلمة الفتح الذين قيل لهم: «الطلقاء».
وعدمت طوائف من الناس هذا الاستعداد جملة فشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى وعاندوا الحق بعد ما وضح، وصدّوا عن سبيل الله من آمن به، وبذلوا جهدهم في إطفاء نور الله- رسول الله صلى الله عليه وسلّم- حتى ماتوا وهم كافرون من أجل أنه لم يكن فيهم من الاستعداد المهيء لقبول الهدى شيء، قلّ ولا جلّ، بل كانوا في ورود الهدى عليهم بمنزلة الأرض الخبيثة التي أحاطت ماء الغيث العذب الطهور إلى السباخ الرديء، وبمنزلة من به آفة في معدته من خلط رديء، فأحالت أطيب المآكل وأنفعها سما مهلكا وداء عياء.
وانظر- رحمك الله- إلى الآية الواحدة من كتاب الله تعالى فإنّها ترد على الأسماع، فواحد يفهم أمرا واحدا، وآخر لا يفهم منها ذلك الأمر بل يفهم أمرا آخر، وآخر يفهم منها أمورا كثيرة، ولهذا يستشهد كل واحد من الناظرين فيها بها، فالآية واحدة العين، والسامعون لها مختلفون في القبول، وذلك لاختلاف استعداد أفهامهم فيها.
واوع سمعك أمثالا أفصّلها مما قد ألفته من المحسوسات: منها أن الشمس تبسط أنوارها على الموجودات كلها فتقبل المحال ذلك النور على قدر الاستعداد، فالجسم المبرود يسخن بها فيتلذذ بذلك، والجسم المحرور يزيد في كمية حرارته فيتألم بها، فالنور واحد لهما، وكل واحد منهما يتألم بما به ينعم الآخر بعينه، فلو كان النور لإعطائه حقيقة واحدة، وإنما ذلك لاستعداد القابل.
وهكذا تجد الشمس تسوّد وجه القصّار، وتبيض الثوب الّذي يقصره، فإن استعداد الثوب تعطي الشمس فيه التبييض، ووجه القصّار تعطي الشمس فيه التسويد، وكذلك ترى الشمس تذيب الشمع والشحم، وتجفف الطين والثوب المبلول، فإن استعداد كل واحد من هذه المذكورات تعطيه الشمس بحسب قبوله، ومن ذلك الهواء، إذا هبّ فإنه في هبوبه يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب ونحوه مما من شأنه أن يقبل الاشتعال، وهكذا نفخك يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب، وربما كان ذلك بنفخة واحدة، وذلك أن اختلافهما في الاستعداد يوجب اختلافهما في القبول، والهواء واحد في عينه، ومن هذا القبيل العطايا الإلهية، قال تعالى: {وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} 17: 20. أي ممنوعا، فهو سبحانه معط على الدوام، والمحالّ تقبل على قدر ما أعطاها الله تعالى من الاستعدادات، فإذا فهمت هذا علمت أن عطاء الله تعالى ليس بممنوع، إلا أنك تحب أن يعطيك مالا يقبله استعدادك، وتنسب المنع إليه- سبحانه- فيما طلب منه، ولا تجعل ما لك من الاستعداد وتقول: إن الله تعالى على كل شيء قدير، وتصدق في ذلك، ولكنك تغفل عن ترتيب الحكمة الإلهية وما تعطيه حقائق الأشياء والكل من عند الله، فمنعه عطاء، وعطاؤه منع، ولكن بقي أن تعلم بكذا أو من كذا.
وإذا تدبرت هذه الأمثلة انجلت لك شبهة ما أورده أهل الزيغ والإلحاد على عموم أن رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال أبو عبد الله محمد بن علي المعروف بالحكيم الترمذي: إن الأنبياء والرسل.
صفوة الخلق، وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه نور، ورحمة، قال الله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} 21: 107، فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلّم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق لما بعثه سبحانه وتعالى أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور، وسائر الأنبياء عليهم السلام لم يحلوا هذا المحل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم: أنا رحمة مهداة، فأخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله تعالى، وقوله: مهداة، أي هدية من الله سبحانه وتعالى للخلق، والله الموفق.
وأما مخاطبة الله له بالنّبوّة والرسالة ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه فإن ذلك أبان الله تعالى به عن إجلال قدر نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم وتمجيده وتعظيمه، فإنه لا أجلّ من النبوة، ولا أعظم خطرا منها، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ} 33: 45، وقال: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله} 8: 64، وقال: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الْكُفْرِ} 5: 41، وقال: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 5: 67، وخاطب سبحانه الأنبياء بأسمائهم، وأخبر عنهم بأسمائهم، فقال تعالى: {يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 2: 35، وقال في الإخبار عنه: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى} 20: 121، وقال: {يا نُوحُ اهْبِطْ} 11: 48 [7]، وقال في الإخبار عنه: {وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ} 11: 42 [8]، وقال: {يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} 11: 76 [9]، وقال في الإخبار عنه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ من الْبَيْتِ} 2: 127 [10]، وقال: {يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي} 7: 144 [11]، وقال في الإخبار عنه: {فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ} 28: 15 [12]، وقال: {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} 5: 110 [13]، وقال في الإخبار عنه: {وَإِذْ قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إسرائيل} 61: 6 [14]، وقال: {يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ} 11: 53 [15]، وقال: {يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا} 7: 77 {بعذاب الله} [16]، وقال: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ} 38: 26 [17]، وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ} 38: 34 [18].
وقال: {يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} 19: 7 [1]، وقال: {يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ} 19: 12 [2]، فلم يخاطب أحدا منهم ولا أخبر عنه إلا باسمه، وكل موضع ذكر فيه محمدا صلى الله عليه وسلّم أضاف إليه ذكر الرسالة، فقال تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 3: 144 [3]، وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله} 48: 29 [4]، وقال: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ من رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ الله} 33: 40، وقال: {وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ من رَبِّهِمْ} 47: 2، فسماه ليعلم من جحده أن أمره وكتابه هو الحق، ولأنهم لم يعرفوه إلا بمحمد، فلو لم يسمه لم يعلم اسمه من الكتاب، وكأن تسمية الله له بمحمد زيادة في جلالة قدره وتنبيها على مزيد شرفه، لأن اسمه عليه السلام مشتق من اسم الله تعالى، كما مدحه به عمه أبو طالب بقوله:
وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد

ولما جمع الله تعالى بين ذكر محمد وإبراهيم عليهما السلام، سمي خليله باسمه وكنّي حبيبه محمدا بالنّبوّة فقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 3: 68، فأبان سبحانه بذلك عن شرف مقدار محمد صلى الله عليه وسلّم وعلو رتبته عنده، ثم قدمه الله عز وجل في الذكر على من تقدمه في البعث، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ من بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} 4: 163، إلى قوله: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا } 4: 163، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا من النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمن نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ} 33: 7 [10]. الآية، وقد روى من طرق عن سعيد بن بشير، حدثنا قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا من النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمن نُوحٍ} 33: 7 [11]، قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث»، فانظر كيف خاطب الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلّم بالنّبوّة والرسالة، ولم يخاطب غيره من الأنبياء إلا باسمه، إلا أن يكون محمدا صلى الله عليه وسلّم في جملتهم فيشركهم معه في الخطاب والخبر، ليبين تعالى لعباده ارتفاع رتبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم على جميع الأنبياء، وعلوّ مكانته على مكاناتهم كلهم، إذ الكناية عن الاسم غاية التعظيم للمخاطب، لأن من بلغ به الغاية في التعظيم كني عن اسمه بأخص أوصافه وأجلّها، والله الموفق.
وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلّم ما قرفه به المكذبون، ونهي الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه.
اعلم أن الأمم السالفة كانت تخاطب أنبياءهم بأسمائهم، كقولهم: {يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} 7: 138، وقولهم: {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً} 5: 112، وقولهم: {يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ} 11: 53، وقولهم: {يا صالِحُ ائْتِنا} 7: 77، فشرف الله الرسول صلى الله عليه وسلّم بتبجيل قدره، ونهى الكافة أن يخاطبوه باسمه، فقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 24: 63، فندبهم الله تعالى إلى تكنيته بالنّبوّة والرسالة، رفعة لمنزلته وتشريفا لقدره على جميع الرسل والأنبياء، وأوجب تعالى تعزيره صلى الله عليه وسلّم وتوقيره، وألزم سبحانه إكرامه وتعظيمه، قال ابن عباس: تعزروه: تبجلوه، وقال المبرد: تعزروه: تبالغوا في تعظيمه، وقال الأخفش: تنصرونه، وقال الطبري: تعينونه، وقرأ {تعززونه} بزاءين من العز.
وخرج محمد بن عثمان بن أبي شيبة من حديث أبي رزق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 24: 63. قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم، قال: فنهاهم الله عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلّم، قال: فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.
ولأبي نعيم من حديث محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 24: 63 يعني كدعاء أحدكم إذا دعي أخاه باسمه، ولكن وقروه وعزروه وعظموه، وقولوا: يا رسول الله، ويا نبي الله.
وعن عاصم عن الحسن: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 24: 63 قال: لا تقولوا: يا محمد، قولوا يا رسول الله.
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 24: 63 قال: لا تقولوا: يا محمد، قولوا يا رسول الله.